فشل الجواسيس في خلط الأوراق على الساحة الإيرانية.. قراءة استراتيجية في بنية الحرب الخفية وآليات الصراع المعاصر

بقلم نهاد الزركاني
-من السلاح إلى الذكاء: تحولات مفهوم الحرب
شهد العالم تحولاً جوهرياً في مفهوم “الحرب”، فالحروب الكلاسيكية التي كانت تعتمد على جيوش وعتاد وأرض ومعركة، بدأت تتآكل مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وولادة ما يُعرف بالحرب الباردة، حيث صار “النفوذ” و”المعلومة” و”الاختراق” هي أسلحة العصر.
لكن الأخطر من تغير الأداة، هو تغير الغاية من الحرب: لم تعد الحرب فقط لإسقاط نظام أو احتلال أرض، بل أصبحت أداة لـ إعادة تشكيل وعي الشعوب، وهندسة مساراتهم النفسية والسياسية والاجتماعية، لذلك ظهرت أجيال الحروب:
الجيل الأول: الجيوش النظامية.
الجيل الثاني: الجيوش المدعومة بالتكنولوجيا.
الجيل الثالث: الحرب الخاطفة والمباغتة.
الجيل الرابع: الجماعات غير الحكومية، الإعلام، المجتمع المدني.
الجيل الخامس: حرب الذكاء الاصطناعي، التضليل، التحكم بالعقول.
الجيل السادس: الحرب الهجينة القائمة على الذكاء الجماعي والأنظمة السايبرية.
وإيران اليوم، تعيش في صلب هذا الجيل السادس من الحروب، حيث لا تُدار المعركة من على حدود طهران، بل من داخل عقول أبنائها.
-الجاسوسية كفكرة: من “الرجل المتخفي” إلى “الوظيفة المبرمجة”
حين نتحدث عن الجواسيس، لا نتحدث عن شخص يخفي نفسه في الظلام، لقد تغيّر المشهد، الجاسوس المعاصر يُصنع اجتماعياً وثقافياً وإعلامياً، بل قد لا يعرف أنه جاسوس!
الناشط الحقوقي الذي يتحرك ضمن أجندة تمويل أجنبي، دون أن يراجع أهداف المشروع.
الموظف في منظمة دولية يرسل تقاريره بتفاصيل دقيقة عن المجتمع المحلي، بزعم أنها “بيانات تنموية”.
المثقف أو الصحفي الذي يروّج لرؤية استعمارية دون أن يدرك أنه يمهّد الطريق لاختراق مجتمعه.
لقد نجح الغرب في صناعة “الجاسوس الذي لا يعرف أنه جاسوس”، أو على الأقل: يعرف ويتظاهر بالنبل، وهذه أخطر أشكال الجاسوسية، لأنها تضرب الثقة المجتمعية، وتُربك الوعي الجماعي.
-الجاسوس كرئيس دولة: عندما تُخترق السيادة باسم الديمقراطية
في بعض الدول، لم تعد الحاجة إلى اختراق أمني، لأن رأس النظام نفسه ابن المشروع الاستعماري، أو صنيعة هندسة سياسية غربية، هنا لا يعود الجاسوس موظفاً في الظل، بل يصبح الناطق باسم الدولة.
تُعقد المؤتمرات، وتُرفع الشعارات الوطنية، لكن القرار السيادي يُكتب في سفارات واشنطن وتل أبيب.
هنا، تصبح الحرب بلا جيوش ولا مدافع، لكنها تحقق ما لم تحققه الحروب التقليدية خلال قرن.
-المواطن كأداة: من الهاتف إلى التجسس الذاتي
نحن اليوم أمام تحول مذهل:
الإنسان صار أداة تجسس على نفسه.
يحمل هاتفه، فيُراقَب.
يتحدث، فيُسجّل.
يكتب، فيُحلل.
يمرّ بكاميرات المدن الذكية، فيُرسم مساره.
يدخل مواقع التواصل، فيُبنى ملفه النفسي والذهني.
التجسس لم يعد فعلاً عدوانياً خارجياً، بل صار نظاماً ضمن الحياة اليومية.
وحين نفكر في ما جرى في لبنان من انفجار جهاز ظل متداولاً لسنوات، نفهم أن المعركة لا تُحسم بضربة واحدة.
كل ورقة تُستخدم في وقتها المناسب.
العدو ليس في عجلة من أمره، لأن الحرب الحقيقية هي حرب التوقيت.
-إيران… دولة تتقن امتصاص الضربة
الجمهورية الإسلامية في إيران قدّمت نموذجاً فريداً في التعامل مع هذه الحرب غير المتناظرة.
الاغتيالات التي استهدفت كبار قادتها الأمنيين والعسكريين (من الشهيد عماد مغنية إلى الحاج الشهيد قاسم سليماني إلى الحاج أبو مهدي المهندس إلى الحاج فخري زادة إلى سيد الشهيد حسن نصر الله ورفاقه الشهداء وإلى الشهيد أبو علي ومن كان معه من رفاق من أرض العراق) لم تُسقط المشروع، ولم تُربك الداخل، بل كانت مناسبة: لتجديد الخطاب الأمني.
لتطوير أدوات الرد.
لبناء وعي جمعي أكثر صلابة.
لإرسال رسائل دولية بأن إيران لا تنهار بل تُعيد التمركز.
فإيران لا تنكر وجود الاختراق، لكنها لا تُستفز، ولا تمنح العدو “نصر اللحظة”، وهذا قمة الذكاء الاستراتيجي: أن تمتص الضربة، وتحوّلها إلى مصدر قوة.
—
خلاصة فلسفية: وعي الشعوب هو خط الدفاع الأخير
العدو اليوم لا يسعى فقط لزرع الجواسيس، بل لصناعة أمة تستبطن الهزيمة.
وإذا استسلم الإنسان إلى ما بين يديه، واعتقد أن كل شيء ظاهر هو كل الحقيقة، وقع في فخّ “الإغواء الإعلامي” و”الاستسلام المعرفي”.
من هنا، يكون الوعي النقدي هو خط الدفاع الأخير، لا يكفي أن نحسن النوايا، بل علينا أن نحسن أدواتنا في الشك والتمحيص، فالحرب لم تعد بين جيوش، بل بين الوعي والخداع، بين الإنسان الحر، والإنسان الذي تمّت برمجته ليصدق ما لا يُصدّق.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز