مقالات
أخر الأخبار

خور عبد الله: السيادة العراقية بين الشعارات والتفريط

كتب نهاد الزركاني.. تتكرر كلمة «السيادة» في الخطاب السياسي والإعلامي العراقي إلى حد أنها كادت تفقد معناها الجوهري، فتحولت إلى شعار يُتداول بكثرة في البيانات والخطب دون أن يقابله التزام عملي يحفظ الحقوق الوطنية.

فبينما يرفع المسؤولون والإعلاميون شعار السيادة في العلن، نجد في الواقع ممارسات تناقض هذا الشعار وتفرغه من مضمونه.

إن أخطر ما يهدد الدول الضعيفة ليس الغزو العسكري المباشر فقط، بل الصفقات السياسية والقانونية الملتبسة التي تُطرح على أنها ((تسويات دبلوماسية)) أو ((اتفاقات حسن جوار))، في حين أنها تمثل في جوهرها تنازلات عن حقوق الأجيال القادمة. في هذا السياق، تأتي قضية خور عبد الله بوصفها اختبارًا جديًا لمعنى السيادة العراقية ومصداقيتها.

السيادة بين الخطاب والواقع

عندما يتحدث بعض السياسيين والإعلاميين عن السيادة، يغضون الطرف عن حقائق واضحة:
١.الانتهاكات المتكررة للأراضي العراقية من قبل دول الجوار تحت ذرائع أمنية مثل تركيا .

٢.الوجود العسكري الأجنبي الذي يفرض إيقاعه على القرار الأمني أمريكا.

هذا التناقض يجعل من مفهوم السيادة شعارًا أجوف إذا لم يقترن بموقف حازم يحمي الأرض والماء والقرار الوطني.

القانون الدولي أداة الأقوياء على الضعفاء

في هذا السياق، من الضروري الاعتراف بأن القانون الدولي نفسه لا يُطبَّق بعدالة كاملة على الجميع. الدول القوية، صاحبة السيادة الحقيقية، تفرض مصالحها وتفسر القانون بما يخدمها، ولا تخضع فعليًا لإرادة خارجية. أما الدول الضعيفة خارجيًا والهشة داخليًا، فهي من تجد نفسها مجبرة على «الالتزام» بتفسيرات انتقائية للقانون الدولي تفرضها القوى الكبرى.

الأخطر من ذلك، أن بعض النخب الحاكمة في الدول الهشة يكونون صارمين على شعوبهم لكن ضعفاء أمام الخارج. وتحت ذريعة الشرعية الدولية أو التسويات، قد يقبلون أو حتى يتبنّون التنازلات خدمةً لمصالحهم الضيقة، مدركين أن وجودهم في السلطة مؤقت فيسعون لجمع المكاسب مهما كان الثمن.

خور عبد الله: ممر مائي استراتيجي

خور عبد الله ليس تفصيلاً جغرافيًا بسيطًا، بل هو شريان بحري حيوي يفصل شبه جزيرة الفاو العراقية عن جزيرة بوبيان الكويتية، ويعد المنفذ البحري الأهم للعراق نحو الخليج والعالم.

تعود جذور المشكلة إلى رسم حدود الكويت في بدايات القرن العشرين، حين فصلت القوى الاستعمارية الكويت عن العراق بما يضمن لها منفذًا واسعًا على البحر. وقد زادت تعقيداتها بعد غزو الكويت وما تبعه من عقوبات وقرارات دولية، مثل قرار مجلس الأمن 833، الذي صدر في فترة كان العراق فيها فاقدًا لسيادته الفعلية تحت الفصل السابع.

ومع أن العراق خرج رسميًا من الفصل السابع، لم تبذل الحكومات المتعاقبة جهدًا جادًا لمراجعة هذه القرارات أو تعديل آثارها على سيادة البلاد. بل على العكس، ظهرت أصوات تبرر هذه الاتفاقات وتسوغ القبول بها، بحجة حسن الجوار أو الالتزام الدولي.

التفريط المقنّع

ما يثير القلق هو أن بعض المسؤولين والإعلاميين يبررون التنازل عن حقوق العراق بلغة قانونية ظاهرها احترام الشرعية الدولية، وباطنها التفريط بالسيادة.

يتحدثون عن اتفاقات ((ملزمة))أبرمت في ظروف اختلال ميزان القوى دون السعي لمراجعتها.

يروجون لفكرة ((حسن الجوار))وكأنها تعني التنازل عن الأرض والمياه والحقوق التاريخية.

يشغلون الرأي العام بصراعات داخلية، بينما تتم هندسة التنازلات في الخفاء.

إن قضية خور عبد الله تمثل مثالًا واضحًا على هذا النوع من التفريط المقنع: تنازل استراتيجي يُراد تمريره وكأنه حل قانوني أو دبلوماسي طبيعي.

خاتمة: قضية كرامة وطن

إن قضية خور عبد الله ليست نزاعًا حدوديًا بسيطًا يمكن حله بالمساومات السياسية، بل اختبار حقيقي لمعنى السيادة العراقية: هل هي شعار للاستهلاك الإعلامي أم التزام أخلاقي وقانوني وشعبي؟

من يتساهل في خور عبد الله اليوم يفتح الباب للتفريط في أي جزء آخر من العراق غدًا. إن الدفاع عن هذا الممر المائي ليس عداءً لدولة جارة ولا رفضًا للتعاون، بل هو دفاع مشروع عن كرامة العراق وحقوق أجياله القادمة.

ولهذا، فإن المطلوب اليوم ليس الخطاب العاطفي ولا التلاعب القانوني، بل موقف وطني صريح يضع مصلحة العراق فوق كل اعتبار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى