مقالات
أخر الأخبار

أغطية الجهل

كتب العلاء صلاح عادل: في ظل التوسع الهائل في التعليم العالي وتزايد أعداد حاملي الشهادات الجامعية والعليا، باتت مجتمعاتنا تميل إلى مساواة التحصيل الأكاديمي بالثقافة، حتى غدا مجرد الحصول على شهادة دكتوراه أو ماجستير كافياً لمنح صاحبه صفة “المثقف”. ولكن، هل كل من تخرّج من جامعة وحمل شهادة عليا هو مثقف فعلاً؟، أم أننا نعيش اليوم حالة من الخداع الاجتماعي تحت ستار الألقاب العلمية؟.

 

هذا ما يفتح باب الحديث عن مفهوم “الأمية المقنّعة”. هذه الأمية لا تتجسد في عدم القدرة على القراءة أو الكتابة، بل في غياب الفهم العميق، والانغلاق على التخصص، والعجز عن التفكير النقدي، والافتقار إلى الثقافة العامة والانفتاح الفكري.

إنها نوع من الجهل المتخفي خلف مظهر متعلم، قد يكون أخطر من الأمية الصريحة، لأن حامله يُمنح سلطة معرفية – سواء في الأسرة أو المجتمع أو المؤسسة – دون أن يمتلك فعلاً أدوات التفكير أو التحليل.

في كثير من الأحيان، يُمارَس التعليم في مؤسساتنا على أساس التلقين، لا على أساس الإبداع والتحليل، الطالب يحفظ ولا يفهم، يردد ولا ينتقد، يُمتحَن في ما يُطلب منه، لا في ما يفكر فيه، هذا النمط من التعليم ينتج خريجين يجيدون اجتياز الامتحانات، لكنهم يعجزون عن تحليل الواقع أو مناقشة الأفكار أو تقبل الرأي الآخر، والمفارقة أن البعض كلما تعمق في التخصص، انغلق أكثر، فصار يرفض أي نقاش خارج إطار تخصصه، ولا يرى للعالم سوى زاويته الضيقة.

وهكذا، بدلاً من أن تكون الشهادة بوابة إلى المعرفة الواسعة، تصبح جداراً يعزل صاحبها عن الفكر والثقافة والمجتمع، من المهم أن نفرق بين المتخصص والمثقف، المتخصص قد يكون طبيباً بارعاً أو مهندساً متميزاً أو باحثاً في مجال دقيق، لكنه لا يقرأ في الفلسفة أو التاريخ أو الأدب أو علم الاجتماع، ولا يهتم بالقضايا العامة أو النقاشات الفكرية.

بينما المثقف هو من يمتلك وعياً نقدياً، وانفتاحاً على مختلف مجالات المعرفة، وقدرة على الربط والتحليل والمساهمة في الشأن العام، بغض النظر عن تخصصه، لهذا، قد نجد مثقفين كباراً لم تطأ أقدامهم الجامعة، ونجِد في المقابل حملة شهادات عليا يجهلون أبسط قواعد الحوار والاطلاع العام.

المثقف الحقيقي لا يُقاس بشهادته، بل بفكره وسلوكه وموقفه من العالم، الأخطر في “الأمية المقنعة” أنها لا تنحصر في الجهل الشخصي، بل تنتج سلطة زائفة، فحين يتحدث شخص يحمل شهادة دكتوراه، يُنظر إلى كلامه تلقائياً على أنه “حقيقة”، حتى لو كان خالياً من المنطق والمعرفة، وهكذا تتحول الشهادة من وسيلة لتمكين العقل إلى أداة لتمرير الأفكار الخاطئة بثقة مدمّرة.

تتجلى هذه المشكلة أكثر في الوظائف الإدارية والقيادية، حيث يُمنح البعض مناصب عليا بناءً على ألقابهم العلمية، لا على كفاءتهم الحقيقية أو رؤيتهم الفكرية.

النتيجة: قرارات سطحية، إدارات مشوشة، ومجتمعات تقاد بمعايير الشهادة لا بمعايير الوعي، ما نحتاج إليه اليوم ليس المزيد من الشهادات الورقية، بل إعادة تعريف لمفهوم الثقافة، نحتاج إلى تعليم يحرر لا يقيّد، يُنمّي النقد لا التكرار، يفتح الآفاق لا يُغلقها.

الثقافة ليست ما نحفظه، بل كيف نفكر، والمثقف ليس من يعرف الإجابة، بل من يعرف كيف يطرح السؤال، علينا أن نعيد النظر في نظرتنا إلى حاملي الشهادات، لا من باب التقليل من شأنهم، بل من باب ترسيخ التمييز بين العلم الحقيقي والزيف المؤسسي. فليس كل متعلم مثقفاً، وليس كل مثقف متعلماً بالمعنى الرسمي، والمجتمع السليم هو من يُعلي من شأن الفكر لا الورق.

نحتاج إلى ثورة معرفية صامتة، تبدأ من داخل الوعي الفردي، وتعيد ترتيب سلم القيم المعرفية في المجتمع، حيث تكون الثقافة دليل وعي، لا نتيجة تلقائية لنيل شهادة.

 

لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرامالنعيم نيوز

لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التاليالنعيم نيوز

كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا علىقناة النعيم الفضائية

كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرامالنعيم نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى