
كتب علي لفتة سعيد: يجد الإنسان نفسه في كثير من الأحيان مندفعاً إلى المبالغة في محاسبة نفسه والآخرين أو إعلان عدم الرضا عن واقعةٍ ما، وكأنه يريد أن يخفّف عن نفسه أثر ما جرى، لكن هذه المحاسبة سرعان ما تنقلب، في لحظة ضعف أو انكسار، إلى جلدٍ للذات.
والمفارقة أن هذا الجلد لا يبقى محصوراً في حدود الفرد، بل قد يتوسّع ليصبح حكماً على مجتمعٍ كامل، أو حتى وصفاً لمدينة بأكملها، وكأنها وُلدت لتُدان إلى الأبد، إن جلد الذات، في جوهره، ليس سوى علامة على غياب الحلول أو العجز عن المواجهة، من لا يملك أدوات النقد الموضوعي ولا القدرة على التصحيح، يجد نفسه يجلد ذاته أولًا، ثم يجلد الآخرين بحدّة أشد، وهكذا ندخل دائرةً مفرغةً من اللوم المتبادل، حيث لا خلاص ولا علاج، بل مزيد من الإحباط والعجز.
إن تعريف جلد الذات من ناحية علم النفس بأنه “سلوك سلبي مفرط يتمثّل في النقد الذاتي المستمر، واللوم غير المبرّر، والشعور بالذنب، وعدم تقدير النفس، ومحاولة تحقيق المثالية، مما يؤدّي إلى فقدان الثقة بالنفس والشعور بالعجز والإحباط، وقد يتطور إلى مشاكل نفسية مثل الاكتئاب والقلق.
ولهذا نجد أن السؤال يبقى مطروحاً، لماذا يلجأ الفرد إلى جلد نفسه؟ ولماذا يمتدّ الأمر إلى جلد المجتمع برمّته؟.
إن الإجابة ستكون مبنيةً على معرفة الأسباب التي تؤدّي إلى جلد الذات منها، الشعور الدائم بالذنب، وضعف تقدير الذات، المثالية المفرطة، والتربية الصارمة، إضافة إلى القلق والاكتئاب اللذين يضاعفان النظر إلى الجوانب السلبية، أما اجتماعياً، فهناك ضغوط المجتمع، والمقارنات المستمرة، والنقد الجارح، والتنمر، وصولاً إلى الظروف السياسية والاقتصادية التي تزرع في النفوس شعوراً بعدم القدرة على التغيير.
أن جلد الذات يتحوّل الى خطورةٍ كبيرةٍ حين يختلط عند كثيرين بمفهوم النقد، فالنقد الذاتي فعلٌ واعٍ هدفه التصحيح، بينما جلد الذات هو ردّة فعل على واقعٍ قاسٍ، لا يترك وراءه سوى الإحباط وفقدان الطاقة، لذلك، تتحوّل هذه الظاهرة، في المجتمعات التي أنهكتها الحروب والصراعات، إلى ثقافة عامة تقوّض أي إمكانية للنهوض.
إن مثل هكذا حالة لها تأثير واضح على المجتمع الذي يتشرّب ثقافة جلد الذات، كونه يصبح أقل ثقة بنفسه، وأكثر تردّداً في اتخاذ المبادرات، وأن الأفراد يعيشون تحت وطأة الخوف من الفشل، فينكمش الإبداع وتتراجع روح المغامرة، ومع مرور الوقت، تنتشر ثقافة الإحباط، وتضيع القدرة على التفريق بين النقد البنّاء وبين اللوم العقيم.
إن من البديهي أن تكون هناك معالجات والحد من آثارها، من خلال جملة من الخطوات منها:
أوّلاً: التفريق بين النقد وجلد الذات، عبر نشر وعي يوضح أن النقد البنّاء إصلاح، بينما جلد الذات هدم.
ثانياً: إعادة صياغة الأفكار، عبر تحويل الأخطاء إلى فرص للتعلّم، لا إلى أسباب للعقاب المستمر.
ثالثاً: التسامح مع الذات، عبر معاملة النفس برفق، كما نعامل صديقاً وقع في خطأ.
رابعاً: التربية الإيجابية، التي تبدأ من الأسرة إلى المدرسة، تقوم على التشجيع والتجريب بدل العقوبة القاسية.
خامساً: الوعي بأن الفشل مؤقت لا يعد فشلا شخصياً لا يعني نهاية الطريق، ولا الفشل الجماعي لا يعد قدراً محتوماً.
سادساً: تخفيف المقارنات الاجتماعية، عبر التركيز على ما تحقق بدلاً من الانشغال بما لدى الآخرين.
سابعاً: دعم نفسي ومجتمعي، عبر برامج ومبادرات تُساعد على مواجهة ضغوط الحياة.
ثامناً: إرساء النقد الموضوعي من خلال تفعيل العمل في السياسة والاقتصاد والثقافة، ليصبح أداة بناء لا معول هدم.
إن جلد الذات ليس مجرد حالة نفسية فردية، بل هو مرآة تعكس أزمات المجتمع وصراعاته، وإذا ما بقي الناس أسرى لهذه الدائرة المغلقة، فسوف يتوارثون ثقافة الإحباط جيلاً بعد جيل، أما حين يتحوّل جلد الذات إلى نقدٍ ذاتي إيجابي، فإنه يفتح الباب أمام طاقات جديدة، ويعيد إلى المجتمع قدرته على الحلم والتغيير.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز



