
كتب حيدر البرزنجي.. في عالم يمور بالتحولات الجذرية، لم تعد الدول تُقاس بقوة جيوشها أو بحجم احتياطاتها النقدية فحسب، بل بمقدار قدرتها على الصمود، إدارة التحديات، وصياغة مشروع وطني جامع.
في قلب هذا المشهد المتغيّر، يثور سؤال محوري: هل يشتري المال السيادة والاستقرار؟، وهل القوة وحدها كافية لضمان الحكم والاستمرار؟، أم أن هناك عناصر أعمق من كل ما هو ظاهر؟.
في هذا المقال، نبحث في خارطة الولاءات السياسية العالمية والإقليمية، ونُحلل أدوات القوة الحقيقية للدول المستقرة، ونفكك وهم الاستقرار القائم فقط على المال والسلاح. أولًا ـ تحوّل الولاءات في عالم غير مستقر : خلال العقود الماضية، كانت السياسة الدولية محكومة بمحاور واضحة، الشرق والغرب، الاشتراكية والرأسمالية، أميركا والاتحاد السوفييتي. لكن انهيار القطبية الثنائية وصعود قوى جديدة كالصين وروسيا، أدّى أو تآكل النظام الأحادي، ودخول العالم في مرحلة “سيولة استراتيجية». في هذه البيئة، لم تعد الولاءات السياسية تقوم على أيديولوجيا أو تحالفات ثابتة. أصبحت الدول تُعيد رسم علاقاتها وفق مصالحها المباشرة، وأمن أنظمتها. في المنطقة العربية، شهدنا تغييرات مفصلية: تقاربات غير متوقعة (مثل التطبيع بين دول خليجية وإسرائيل). عودة تركيا وإيران كقوتين إقليميتين وازنتين.
توجه بعض الدول نحو الشرق (الصين وروسيا) كبدائل عن المظلة الأميركية.
النتيجة: تبدّلت خارطة الولاءات، ولم يعد الولاء مسألة أيديولوجية، بل أداة للبقاء.
ثانيًا ـ المال والسلاح… هل تكفي أدوات السيطرة؟ : من السهل أن نرى المال كأداة سيادة، المال يُمكِّن الدول من شراء الأسلحة، تأسيس أجهزة أمنية، تمويل الإعلام، إقامة علاقات استراتيجية. لكن، في عمق التحليل، المال يشتري الأشياء الظاهرة، لا الجوهر.
يمكنه أن يشتري الوقت، لا الشرعية. يموّل الردع، لا يمنع الانفجار من الداخل. يشتري الإعلام، لا يصنع الانتماء.
كذلك، فإن القوة العسكرية، رغم أهميتها، قد تتحول أو سيف ذي حدين إذا لم تكن مندمجة في مشروع وطني، ومرتبطة بشرعية حقيقية.
أمثلة كثيرة من التاريخ القريب توضح ذلك: دول امتلكت جيوشًا ضخمة لكنها انهارت داخليًا. أنظمة امتلكت ثروات هائلة لكنها سقطت عند أول هزة سياسية.
الدرس هنا واضح، لا المال وحده، ولا السلاح وحده، يحفظان الدولة.
ثالثًا ـ ما الذي تمتلكه الدول المستقرة فعلًا؟: حين نتأمل الدول التي حافظت على استقرارها رغم العواصف، نلاحظ أنها تملك ما هو أعمق من المال والسلاح. إنها تملك :
1 ـ شرعية سياسية، شرعية مستندة أو قبول شعبي أو عقد اجتماعي متين. ليست بالضرورة ديمقراطية انتخابية، لكنها تمثّل إرادة جماعية حقيقية.
2 ـ هوية وطنية جامعة، هوية تتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية. تُشعر المواطن بالانتماء أو دولة لا أو طائفة أو عشيرة.
3 ـ مؤسسات قوية وراسخة، دولة لا تعتمد على شخص، بل على بنية قانونية وإدارية مستقلة. مؤسسات تُدير الأزمات، وتحافظ على الأداء العام للدولة.
4 ـ جيش مندمج في الأمة، لا يُستخدم كأداة قمع، بل كحامٍ للوطن. تربطه بالمجتمع علاقة متوازنة تحفظ السيادة، لا تسحق الداخل.
5 ـ تحالفات متوازنة ومرنة، دول تعرف كيف تنسج علاقاتها الدولية وفق مصالحها، لا وفق التبعية العمياء. لا تُراهن على قوة واحدة، بل تنوّع أوراقها وتوازن تموضُعها.
6 ـ نخبة سياسية ناضجة، قيادات تفهم التحولات، تُجيد فن الممكن، وتعرف متى تُقدم على الإصلاح ومتى تُدير الصراع.
7 ـ ثقافة سياسية مجتمعية راشدة، شعب يعي مصلحة دولته، ونخب تطرح الأسئلة، وتُنتج وعيًا لا يُستَخدم فقط للتعبئة.
رابعًا ـ قراءة في عمق الاستقرار الحقيقي: الدولة التي تُبنى على عقد اجتماعي، وهوية مشتركة، ومؤسسات فعالة، تبقى وتواجه العواصف. أما الدولة التي تُبنى على الثروة فقط، أو تُحكم بالقوة فقط، فهي كمن يسكن قصرًا على الرمال. الاستقرار ليس غياب الحرب، بل هو وجود شرعية. السيادة ليست رفع الراية، بل تحكم القرار الوطني. والبقاء ليس استمرار الحُكم، بل استمرار الدولة.
خاتمة ـ من الذي يبقى في زمن التحوّلات؟: العالم يتغير. المعايير القديمة تنهار. المحاور تذوب وتُعاد صياغتها.
وفي هذا المشهد المتقلب، الدول التي تبقى ليست الأغنى، ولا الأقوى، بل الأعمق والأكثر تماسكًا داخليًا. المال يشتري الوقت، لا المستقبل. القوة تفرض الصمت، لا الولاء. أما الشرعية، والانتماء، والمؤسسات، فهي ما يصنع الاستقرار الذي يدوم.