
بقلم: نهاد الزركاني
على طرقات العراق المتمددة كأوردة الحياة، ينساب نهر بشري لا متناهٍ. ألوان وجوه متعددة، لغات تتقاطع كأنها أنغام في سمفونية واحدة، وقلوب تخفق بنبض واحد: الوصول إلى كربلاء.
يمشي العربي والفارسي والتركي والباكستاني، الأوروبي والإفريقي، المسلم والمسيحي، بل حتى من لا يعتنق ديناً، في طريق يمتد أمامهم كلوحة مرسومة بالوفاء والإيمان.
●رحلة الروح قبل الوصول
لكن بين الخطوات الجسدية، هناك رحلة أخرى: رحلة صامتة داخل كل حاجّ، في قلبه وعقله.
كل خطوة سؤال:
لماذا أحمل الحقد وأنا أسير نحو من بكى على قاتليه؟
كيف أطلب العدل وأنا أخطأت بحق غيري ؟
المشي يصبح محاسبة، والتعب يصبح كشفاً عن أثقال لم نكن نعرف أننا نحملها.
حين يصل الزائر إلى كربلاء، لا يصل مجرد جسد… بل يصل قلب خفيف، روح منقاة، ووعي جديد يشعل الرحلة من الداخل.
●كربلاء لا تنتظر الزائر عند المرقد، بل تخرج لاستقباله منذ أول خطوة… تُصلح ما انكسر في روحه قبل أن يصل إليها…..
●درس الحسين في الرحمة والتضحية
في وداعه، رآه الناس يبكي، فاستغربوا، بل حتى أخته زينب قالت له: “ما يبكيك يا أبا عبد الله؟” فأجاب الحسين (ع): ((أبكي لهؤلاء القوم إنهم يدخلون النار بسببي.))
هذه الكلمات تكشف عن فلسفة الحسين العميقة: الحزن على الآخرين، حتى الذين يخطئون، والتضحية لأجل إنقاذهم من الظلم. الحسين لم يبكِ لنفسه، بل لأجل من سيؤذيهم ظلمهم وأخطاؤهم، وهذا يعكس أعظم أبعاد الرحمة الإنسانية.
في سياق الأربعين، هذه الروح تتجسّد في كل خطوة: الزائر يسير متأثراً بمسار الحسين، يتعلم التضحية، التسامح، والتعاطف مع المختلفين، فيصبح الطريق ليس مجرد مشي جسدي، بل رحلة روح نحو الإنسانية الحقيقية.
●ما لم تحققه القوى العظمى
مليارات الدولارات، مؤتمرات القمم، جيوش وقرارات… كل ذلك فشل في جمع البشر على قلب واحد، على قيم مشتركة، على إحساس إنساني نقي. بينما في الأربعين، يتلاقى العالم بلا دعوات رسمية، بلا ميزانيات، بلا دعاية، تحت مبدأ واحد: التضحية في سبيل الحق، خدمة الإنسان، وإعلاء العدالة.
القوة الحقيقية هنا ليست في المال أو السياسة، بل في القيم المشتركة التي تربط البشر بروح واحدة، وتجعلهم يسيرون معاً رغم كل الاختلافات.
اقتراح للأمم المتحدة
إن اجتماع ملايين البشر من ديانات وألوان وأوطان مختلفة، بلا تمويل، وبلا شروط، ومن أجل مبدأ واحد، هو حدث يستحق الاعتراف العالمي.
لذلك، يمكن للأمم المتحدة أن تُعلن:
☆ يوم الأربعين العالمي
أو أي عنوان يعكس الوحدة الإنسانية والقيم المشتركة، مثل: ((اليوم الذي اجتمع فيه العالم على طريق الحسين)) أو ((مسيرة القيم الإنسانية)).
مثل هذا القرار لا يكرّم حدثاً دينياً فحسب، بل يسلط الضوء على قدرة البشر على الاتحاد حول القيم العميقة، فوق الانتماءات الضيقة، وفوق السياسة والمال والقوة.
●كرم العراقيين: فلسفة العطاء بلا شروط
على طول الطريق، تنبثق مواكب كواحات حنان. رائحة الخبز الحار تختلط ببخار الشاي، وأصوات أصحاب المواكب تسبق أيديهم: “تفضل، استرح… هذا بيتك”.
شاب يسكب الماء لشيخ غريب، وطفلة تمد تمرة لزائر لم تره من قبل. العطاء هنا ليس مجرد تصرف، بل لغة الروح التي تتحدث بلا كلمات، درس حيّ في الرحمة والإنسانية.
●الأبطال الصامتون
وراء كل خطوة، هناك صمت يحمي النظام ويضمن الاستمرارية. القوات الأمنية تفتح الطرق، والمواكب تعمل بلا توقف، شهور طويلة، لتأمين كل حاجّة. كل فرد مسؤول عن الآخر، وكل نجاح جماعي مرتبط بتضحيات صامتة.
●فلسفة التعايش
في الطريق، يتعلم الزائر معنى التعايش الحقيقي: ليس القبول السلبي للآخر، بل القدرة على العيش معاً رغم الاختلافات، واحترام الإنسان بما هو عليه. المشي الطويل، التعب، العطاء، المشاركة اليومية، كلها أدوات تعليمية تمحو الغرور وتزرع العدالة والرحمة في النفس.
هنا يصبح الطريق إلى الحسين مختبراً حياً لفلسفة الحياة، حيث التفاعل مع المختلفين يعلّمنا أن الإنسانية أكبر من أي عقيدة أو لون أو لغة.
●رسالة كربلاء
من كربلاء، يخرج نداء الحسين:
ليس مطلوباً أن نتشابه لنمشي معاً، بل أن نحترم اختلافنا ونحن نسير نحو الحق، نحو الكرامة، نحو الإنسان.((الأربعين)).
إذن ليست مجرد ذكرى، بل رحلة الإنسان نفسه: درس في التعايش، في التضحية، وفي قدرة الإنسان على أن يغيّر نفسه قبل أن يغيّر العالم من حوله. الطريق الطويل ليس فقط على الأرض، بل في القلب والروح والوعي… رحلة كاملة من الداخل والخارج، نحو الحسين، نحو الإنسانية.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز