قلقُ الهُويَّة

كتب د. محمد حسين الرفاعي.. إنَّ العلاقة بين الهُويَّة والمواطنيَّة، في المجتمعات التي تنتقل المعرفة العِلميَّة والفلسفية الحديثة وما بعد الحديثة، العالَميَّة، إليها، تتميز بنمط من التوتر والقلق الوجودي العميق.
إنَّ إشكالات التأسيس للمواطنية إنَّما هي تمر عَبرَ علاقة قلقة بين حقول الوجود المجتمعيَّة، التي تتسم، في جملتها، بطور من الاِنتقال من شكل مجتمعي أو نمط وجود مجتمعي معين، إلى شكل مجتمعي أو نمط وجودي آخر. وهكذا، إذا أردنا أن نتساءَل عن المواطنية اِنطلاقًا من مفهوم الهُويَّة في المجتمعات العربيَّة، علينا أن نعي من جديد مفهوم العالَميَّة الجديدة.
متى قام التَّساؤل عن الهُويَّة والمواطنية، والعلاقة بينهما، تقوم الإشكالات على بساط من القلق بين مكوِّنات الهُويَّة وعناصر المواطنية العالَميَّة، على نحو ما تريده العناصر التي تتعارض وتتناقض مع المحدِّدات الوجودية والمعرفيَّة لـ[الوجود- في- العالَم]. أن نتساءل: الآخر ونحن؟ أم نحن والآخر؟ يعني أن نتساءل عن أولِيَّة وأسبقة الذَّات على الآخر، أو أولِيَّة وأسبقية الآخر على الذَّات. وفي هذي المسألة الأكثر دقة وتحديدًا تقع كل الإشكالات والإشكاليات التي تهيِّئُ لعلاقة مع العالَم، على هذا النحو أو ذاك.
نتساءَل عن مُكَوِّنات تُحدِّد الأيديولوجيا العربيَّة، وتقع في الأيديولوجيات المحليَّة والإقليمية والعالمية، بالاِنطلاق من مفهوم المواطنية العالَميَّة. في هذا السياق، يتعرف التَّساؤل الضابط والمتحكم بالإشكالات والإشكاليات على نفسه، باِعتبار أن عودة الأيديولوجيا أم وعيها من جديد، لم تعد مسألة أصليَّة، إلاَّ لأنها في تعالقٍ، على نحو الوجود والكينونة، وعبر الهُويَّة ووعي الذَّات ما بعد الحديثة، بالمجتمع والتغير المجتمعيّ.
إنَّه علينا أن نتعرف إلى هذه الضروب من التَّساؤلات، من موقع الدعوة- النداء، دعوة أن [نفكر- معاً]، وندائِه الأكثر قوة في العالَميَّة اليوم. إنَّها ورشة فكرية من أجل تفكير بين جيلين، جيلنا وجيل آبائنا، بشأنِ مصيرنا ومصير العالَم الذي نعيش فيه. أقدم هنا دعوة الذِّهاب إلى مستوى [التَّفكير- معاً]، وقد صارت، أي الدعوةُ، ضرباً من شجاعةِ أن نقع في التَّساؤل عن الموضوعات الأكثر خطورة في الواقع المجتمعيّ العربيّ، بعامَّةٍ، وفي العراق ولبنان بخاصَّةٍ.
وهكذا، تتضح الحدود النظريَّة للموضوع، على نحو واقعيٍّ حدَّ الألم- الأمل، ضمن إشكالات، وإشكاليات المواطنية، اِنطلاقاً من بداهات عصر ما بعد الحداثة، أي اِنهيار السرديات الكبرى، والنقد، والتفكيك، والتعدُّد في المناهج والأساليب والطرق لبناء المفاهيم العِلميَّة- والفلسفية، بالتوقف عند المحطات الموضوعيَّة والمَنْهَجيَّة الآتية: أولاً: مفهوم المواطنة والمواطنية، وثانياً: [النموذج- المثال Ideal-Type] لبناء التَّساؤل عن المواطنية اليوم، اِنطلاقاً من المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، وثالثاً: ثُنائيَّات ابستيمولوجيَّة في التعرف إلى المواطنية والتفكير بها، ورابعاً: الفرضيات السُّوسيولوجيَّة في الفهم، وخامساً: المواطنية وممارسة السلطة في الواقع المجتمعيّ، وسادساً: العقبات المجتمعيَّة في وجه المواطنية.
لا بُدَّ من أنْ نتساءلَ عن مفهوم المواطنيَّة من جهة كونه مفهومًا إشكاليَّاً في أفق ذاتِ أنفسنا العميقة. نريد هنا أن نقول أنَّنا نتوفر على إمكان أن نكون مواطنين عالميين. إنَّنا لسنا أكثر من كوننا، في السَّبيل إلى ذلك، متسائلين عن جملة الإمكانات الذاتيَّة، وجملة الشروط الموضوعيَّة العالَميَّة التي تمكِّننا من الوجود في العالَم على نحو جديد. وهكذا، علينا أن نتوقف طويلاً عند مستوى إشكاليات المواطنية في المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، ومجتمعات الشرق الأوسط بخاصَّةٍ. إنَّه علينا أن نستجلي مفهوم المواطنية بوصفه قد أصبح مفهومًا حرجًا، ونحن نتكلم ضمن عنوان عميق وقوي هو أن نكون مواطنين عالَميِّين اِنطلاقًا من ذاتِ أنفسنا العميقة؛ عَبرَ علاقة القلق الوجودي والمعرفي التي بيننا والعالَم.
في هذا السياق، باِعتبارنا كائنات عالَميَّة على الرَّغْمِ مِنْ جملة المحدِّدات القَبليَّة Priori المنغلقة على ذاتها، نحن بوصفنا مجتمعات إنَّما نحنُ عقبات في وجه المجتمع العالمي، بعامَّةٍ، والمواطن العالمي في هذا المجتمع بخاصَّةٍ. تتمثَّل هذه العقبات في إنتاج فكر ومعرفة وفهم ووعي يتناقض مع العالَميَّة وأسسها وقواعدها والقوانين التي من شأنها. لماذا عقبات بالتحديد؟ لأننا لا زلنا نقع في شكلٍ من الأشكال الثقافية في العالَم، على الضدِّ منه، ولم نبلغ بعد الشكل الثقافي الأصليّ للعالَم، والمجتمع العالمي، والتعدُّد الثقافي الذي كان قد بلغه.
إنَّ العقبات التي تُستجلى، ويجب أن تُفكَّكَ، في الطريق إلى المواطنية يجب أن تُفهم اِنطلاقاً من ضروب بناء ابستيمولوجيَّة، ومن بَعدُ سوسيولوجيَّة، ومِنْ ثُمَّ سياسية، أي ضمن ماهيَّة السلطة، وعلاقات السلطة، وبنية السلطة في المجتمعات- العقبات هذه، أو في الـ[نحن]، وصولاً إلى شروط إمكانٍ تتوفَّر لدينا في السَّبيل إلى بناء دولة المواطنيَّة؛ تلك التي لازالت تعاني من كونها يوتوبيا فكرية ليس أكثر.
إنَّه والحال هذي، تتمثَّل إشكاليَّة المواطنية في مجتمعاتنا- ولمجرَّدِ أنْ نقول [مجتمعاتِـ- ـنا] نكون قد نخرج من براديغم المواطنية، على نحو عالميّ- في أن القوانين والتشريعات، خلافاً لما تَصوَّرَ جيل الآباء والأجداد- أولئك الذين أخذوا الحداثة بوصفها وحدة، في حين أن الحداثة تعددٌ أولاً وفوق كل شيء، ولذلك هي حداثة- إنَّما هي، أي القوانين والتشريعات، لا تتوفَّر على إمكان أن تَبنيَ، أو أن ترسُمَ لنا الطريقَ نحو أن نكون مواطنين عالميين.
إنَّنا، نحن العرب والمسلمين، أزمة العالَم الذي يعاني منها منذ صحوة الجماعات الهُوَوِيَّة التي ذهبت إلى بناء الدولة على شرعية مجتمعيَّة وفَّرت السوقُ الدينية أرضيةَ إمكانها، أو ذاك الإمكان الذي جَعَل الدِّين قادراً على أن يعلِّمَ الأمة- المِلَّة على أن تنتمي، على هذا النحو أو ذاك إلى العالَم، من جهة، ومشروعية وفرتها وحدة النص، والسنة، والحديث، أي وحدة الماضي ضمن ضرب من اِحتكار الفهم به يذهب إلى بناء عصابة، من جهة أخرى. إنَّها عصابة الفساد، والإفساد المجتمعيَّة؛ التي في أفضل الأحوال يمكنها أن تجد كل الإمكانات في الاِلتفاف على الدولة. تلك التي جعلتنا، ضمن العالَم، دولاً مارقة.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز



