مقالات
أخر الأخبار

سلسلة “الذلة سنة للمعاندين والنصرة وعد للمؤمنين: تأملات في تاريخ بني إسرائيل”

الحلقة الثانية عشرة

السلم موقف عز… لا استسلام ذل: الجمهورية الإسلامية والهدنة الواعية

 

قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]

لا تزال بعض الأبواق المتخاذلة، ومن تربوا على موائد الإعلام المسمومة، يحاولون تشويه مواقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن يتحالف معهم أو ينتسب إليهم، واتهامهم بالضعف أو الجبن حين وافقوا على هدنة، أو ما يصطلح عليه “وقف إطلاق النار”، خصوصاً في المواجهة الأخيرة مع العدوان الصهيوني الغربي. والحقيقة التي يجهلها البعض، ويتجاهلها الحاقدون، أن هناك فرقاً جوهرياً بين السلم الذي أمر به القرآن الكريم، وبين الاستسلام المذل الذي يرفضه الدين والضمير والكرامة.

لقد رسم القرآن الكريم حدود هذا الفارق الدقيق بوضوح، حين قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]

إن السلم، في قاموس القرآن والمقاومة، خيار تكتيكي مشروع، يلجأ إليه حين تقتضي الحكمة والمصلحة العليا ذلك، بشرط أن يحفظ كرامة الأمة، ويصون قدرتها على الردع والمواجهة، ويبقي روح المقاومة مشتعلة في النفوس.

أما الاستسلام، فهو الخضوع الذليل لإرادة العدو، والتنازل عن الحقوق والثوابت، وهو مرفوض عقلاً وشرعاً، بل يصنف في بعض حالاته ضمن الخيانة، خاصة إذا أفضى إلى تقوية الباطل وتمكين الغاصب.

وقد مارست الجمهورية الإسلامية هذا التوازن بحنكة قرآنية واضحة، فهي التي أعدت ما استطاعت من قوة، ولا تزال تعد، تنفيذاً لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]

وها هو العدو نفسه، حين اصطدم بجدار الصمود الإيراني، وحين تذوق شيئاً من بأس رجال المقاومة، طلب هو وقف إطلاق النار، متذرعاً بالهدنة، وتحت ضغوط داخلية وخارجية.

فأين الاستسلام في هذا؟ بل هذا سلم المنتصر، لا خنوع المهزوم.

وصدق الله تعالى حين قال: ﴿وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62]

أيها الإخوة، إن كل مراقب منصف يدرك أن قبول التهدئة في زمن الحرب لا يعني ضعف الجبهة الداخلية، بل يعني إدارة المعركة بعقل استراتيجي، يعرف متى يتقدم، ومتى يناور، ومتى يلتقط الأنفاس استعداداً لجولات قادمة، طالما بقي الاحتلال والعدوان قائمين.

وهنا يجدر التذكير بموقف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم صلح الحديبية، ذلك الاتفاق الذي اعترض عليه بعض الصحابة ظنا أنه تنازل، في حين سماه الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ [الفتح: 1]

إنه فتح بمعنى الانتصار السياسي المرحلي الذي يمهد لانتصارات استراتيجية أعظم، وهذا هو عين ما فعلته الجمهورية الإسلامية حين قبلت الهدنة، لا خضوعاً، بل وعياً وتخطيطاً ضمن معركة مفتوحة مع الصهيونية العالمية والاستكبار الغربي.

نعم، هم ـ أي القيادات الإيرانية ـ أعلنوا أنه لا مجال للكسل أو الاتكالية، بل المطلوب تعبئة شاملة دائمة، واستعداد بكل أشكال القوة: العسكرية، والنفسية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، فهي جميعاً أدوات صناعة الردع وفرض الهيبة على الأعداء.

أما الذين يتصورون أن القوة محصورة في بندقية أو صاروخ، فقد قصر فهمهم، فالنص القرآني بين أن القوة مفهوم واسع، يشمل أدوات المعركة المادية، وأيضاً الأدوات المعنوية التي تزرع الرهبة في قلوب الأعداء.

بل أوسع من ذلك، فالقوة لا تقتصر على الظاهر، بل هي في بناء الإنسان، وتوحيد الصف، ورفع المعنويات، وصناعة الوعي، وتثبيت المجتمع على المبادئ، وهذا ما أشارت إليه مرجعيتنا الرشيدة في بعض دروس التفسير التي تلقى في موسم الدرس الحوزوي يوم الأربعاء من كل أسبوع عادة، وهذا ما أثبتته أيضاً تجارب الشعوب المستضعفة حين انتصرت على أعتى طواغيت العصر الحديث رغم تفوقه العسكري، وهو ما لاحظناه في مسيرة القائد المدرسة السيد حسن نصر الله، وكما نلاحظه في غزة الصامدة، التي ذل أمام كبريائها العدو الصهيوني.

عموماً، ما يجب أن يفهمه أولئك، هو ألا يخلطوا بين السلم المشروع الذي يحفظ الكرامة، وبين الاستسلام الذي يسقطها.

وأنتم أيها الأحبة، لا تضللكم أبواق الهزيمة النفسية التي تحاول تشويه وعي الأمة، فالمواجهة مع العدو لا تدار بالعاطفة، بل بالبصيرة والإيمان.

فمن ذا الذي يمكنه اتهام أمة قال فيها القرآن الكريم: ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ [الأحزاب: 25]

إذا كان العدو هو من جنح للسلم، وتراجع عن غيه تحت ضربات الحق.

فالجمهورية الإسلامية اليوم، وكل محور المقاومة، يمارسون السلم بمعناه القرآني، لا الاستسلام بمعناه الذليل، والحرب لم تنته، وإنما لكل معركة وقتها، ولكل مواجهة حساباتها.

ولعل أهم درس يجب أن يفهمه الجهال والمزايدون، أن الرهبة التي تمنع العدوان لا تصنع بشعارات فارغة، بل بإعداد القوة الشاملة كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]

والمؤسف أن البعض يتهم المقاومة والجهات الدينية الشجاعة بالضعف، في حين أنهم في مواقع التنظير خلف الشاشات، وهو ما أطلق عليه أبطال الكيبورد، بينما من يتهمونهم هم من يقدمون الشهداء، ويخوضون المعارك، ويجبرون العدو على طلب التهدئة.

أليس هذا تطبيقاً حياً للآية؟

أليست هذه الرهبة التي أقرها القرآن الكريم، هي التي دفعت الأعداء لطلب السلم؟

فلماذا يشوه الوعي، ويتهم الأبطال بالجبن، وهم من صاغوا معادلة الردع، وأجبروا العدو على التراجع؟

كما ينبغي ألا يغرنا تصريحات العدو المنهزم، فديدنه قلب الحقيقة، لذا أكرر كلامي إلى من يجهلون سنن المواجهة، أو يعتمدون تضليل الناس، أقول: عودوا إلى القرآن الكريم، واقرؤوه بعيون البصيرة، لا بنظارات الإعلام المعادي.

وفي الختام، أقول لمن لا يريد أن يفهم، ومن في قلبه مرض، ما أمرني به القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ () إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [55 _ 56 القصص]

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

الخطيب الحسيني السيد رسول الياسري

يوم الاثنين ٢٠٢٥/٦/٣٠

 

لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز

لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز

كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية

كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى