مقالات
أخر الأخبار

ترامب ومبدأ مونرو.. إعادة ضبط الدور الأميركي في الشرق الأوسط

كتب محمد علي الحيدري.. استراتيجية الأمن القومي التي أعلنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب في الخامس من ديسمبر 2025 تمثل نقطة انعطاف في السياسة الخارجية الأميركية، ليس بشعاراتها أو طولها، بل بتغييرها الجوهري للنهج التقليدي.

الوثيقة الممتدة على 33 صفحة، تؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد راغبة في لعب دور “الشرطي العالمي”، وأن الأولوية المطلقة هي حماية مصالحها الداخلية والحدودية قبل أي التزام عالمي.

ما كان يُعرف بـ”العالم الأميركي” يتحول إلى صيغة أكثر براغماتية وأقل التزاماً بالقيم العالمية، صيغة تعترف بأن القوة يجب أن تُصرف بحذر وبشكل مركز.

التحول الأكثر وضوحاً يظهر في إحياء مبدأ مونرو، الذي كان تاريخياً يمنع التدخل الأوروبي في نصف الكرة الغربي. اليوم، يتحوّل هذا المبدأ إلى أداة نفوذ مباشرة: تعزيز القوات في الكاريبي، محاصرة النفوذ الصيني والروسي في فنزويلا، وتحويل أمريكا اللاتينية إلى مجال اقتصادي واستراتيجي مغلق أمام القوى المنافسة. هذا التركيز الإقليمي يعكس اعترافاً بأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على التحكم في العالم بأسره، لكنه يحمل مخاطر صراعات إقليمية جديدة في محيطها القريب.

أما أوروبا، فتتعرض لهجوم لاذع. تصف الاستراتيجية القارة بأنها “حضارة منهكة” تواجه خطر “المحو” نتيجة سياسات الهجرة، وتراجع حرية التعبير، واعتمادها الاقتصادي على الصين. هذا التقييم ليس نقداً بل إعادة ترتيب للتحالفات: الناتو لم يعد ضماناً، والدعم الأميركي ليس مفروضاً.

بالنسبة للشرق الأوسط، هذا يعني تراجع الضغط الأميركي والأوروبي المشترك، ما يقلل من التدخل المباشر في السياسات الداخلية للدول العربية، ويتيح فرصاً أكبر للشراكات الاقتصادية المستقلة.

الشرق الأوسط حضر في الوثيقة بغياب لافت. لم يعد محور التحديات العسكرية الكبرى، بل مساحة للشراكات الاقتصادية البراغماتية. تقليل الدعم غير المشروط لإسرائيل، تخفيف الضغوط على إيران، وتوسيع التعاون مع دول الخليج في الطاقة والتكنولوجيا، كل ذلك يشير إلى إعادة ضبط العلاقة مع واشنطن على أساس المصالح المتبادلة لا الالتزامات العسكرية المطولة. لكن هذا الانسحاب الجزئي يحمل مخاطر فراغ استراتيجي قد يغري قوى إقليمية ودولية بالتوسع، ويضعف قدرة واشنطن على ضبط التوترات الكبرى، من لبنان وسوريا إلى الصراع الإسرائيلي-الإيراني.

الاستراتيجية الأميركية الجديدة لا تعلن نهاية الدور الأميركي، لكنها تعيد صياغته داخلياً: أقل انخراطاً، وأكثر تركيزاً على المصالح الملموسة، وأقل استعداداً للالتزام بالقيم العالمية. الشرق الأوسط يواجه مرحلة جديدة، قائمة على الفرص الاقتصادية ومساحة أكبر للتحرك الإقليمي، لكنها محفوفة بمخاطر الفراغ الاستراتيجي والتوترات المحتملة.

السنوات المقبلة ستكشف ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستتيح للعرب بناء منظومات مستقلة قادرة على ملء الفراغ، أو أن المنطقة ستظل عرضة للاضطرابات الناتجة عن غياب القوة الضابطة، مؤكدة مرة أخرى أن الشرق الأوسط سيبقى اختباراً صريحاً لقدرة واشنطن على إعادة ضبط دورها العالمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى