مقالات
أخر الأخبار

تجاوز الاختصاص في تفسير القوانين

كتب القاضي كاظم عباس الخفاجي: يُعدّ قضاء الأحوال الشخصية من أكثر أنواع القضاء التصاقاً بالإنسان وخصوصياته، إذ يمسّ قضايا جوهريَّة مثل الزواج، الطلاق، النسب، النفقة، الحضانة، والإرث، ولذا، فإنّ من يتولّى الفصل في هذه القضايا ينبغي أن يتحلّى بحسّ إنساني عالٍ، وبنَفَسٍ قضائي طويل، ونزعة تصالحيّة تسعى إلى لَمّ شمل الأسرة، وتغليب مبدأ العدالة الاجتماعية على الحرفية القانونية المجردة.

 

فالمشرّع حين سنَّ قوانين الأحوال الشخصية، لم ينطلق فقط من قاعدة قانونية صلبة، بل استبطن خصوصيّة الأسرة في البناء الاجتماعي، وضرورة أن يكون القاضي أكثر حريصاً على الحفاظ على كيانها من تمزقها ولهذا، فإن النص القانوني في هذا الميدان يجب أن يُقرأ بروح العدالة، لا بحرفية الزجر والردع.

ورغم ما يعيشه المجتمع العراقي من تحولات اقتصادية واجتماعية ضاغطة، وما نتج عنها من ارتفاع الخط البياني في عدد النزاعات الأسرية المعروضة على محاكم الأحوال الشخصية في عموم البلاد، فإن هذه المحاكم (بدعم من محكمة التمييز الاتحادية) أثبتت قدرة عالية على التصدي لتلك النزاعات بروح القانون، وأرست، من خلال قراراتها التمييزية، مبادئ اجتهادية حافظت على كيان الأسرة العراقية، ومنعت زعزعة بنيتها التكوينية.

إلا أن هذا الحقل القضائي الخاص لم يَسلم من تدخلات خارجية، فقد تحوّلت قضايا الأحوال الشخصية في السنوات الأخيرة إلى مادة إعلامية مبتذلة، يجري تداولها على منصات التواصل الاجتماعي بلا وعي ولا ضوابط، بل وبلا فهم لطبيعة هذه الملفات الحساسة، فأصبحت مفردات مثل (الطلاق، الحضانة، المادة 57، النفقة، التفريق…) تتناقلها ألسنٌ لا تُفرّق بين مفهومٍ قانوني واجتهادٍ قضائي، وتُطرح في فضاءات إعلامية مفتوحة تُروّج شعارات خادعة عن حقوق المرأة أو الطفل، من دون استناد إلى قانون أو قاعدة فقهيَّة.

ورغم أن هذه الفوضى الإعلاميَّة لم تنجح في التأثير على قناعات قضاة محاكم الأحوال الشخصية، الذين واصلوا تطبيق القانون وفق ضمائرهم واستقلالهم المهني، فإن الخطر الحقيقي لم يأتِ من الإعلام، بل من المحكمة الاتحادية إبّان رئاسة جاسم العميري لها، حيث أصرّ على تجاوز الصلاحيات الحصرية لمحكمته والتدخّل السافر في اختصاص محاكم الأحوال الشخصية.

ففي القضية المرقمة (33/ اتحادية/ 2022)، أقام المدعي (م. ح. ع.) دعوى للطعن بعدم دستورية قرار رقم 1000 لسنة 1983، المتعلق بجواز زيادة نفقة الأولاد والمطلقة في عدّتها تبعاً لتغير الأحوال، وقد ردّت المحكمة الدعوى بقرارها المؤرخ 2023/4/19، معتبرة القرار المطعون به متوافقاً مع أحكام الدستور.

ولكن، وعلى خلاف المنطق القضائي، ضمّنت المحكمة الاتحادية في قرارها تفسيراً إلزامياً لمضمون القرار 1000، وقرّرت أن “المقصود بالنفقة في القرار تشمل الزيادة والنقصان معاً”، واعتبرت تفسيرها هذا ملزماً لجميع السلطات، وهو ما يُشكّل مخالفة صريحة للمادة (93/ثانياً) من الدستور، التي حصرت اختصاص المحكمة الاتحادية بتفسير النصوص الدستورية فقط، دون أي نص قانوني أدنى مرتبة.

وحتى لو قُدّر للمحكمة أن تفسر نصاً قانونياً أثناء نظرها دعوى للطعن به، فإن هذا التفسير (بحسب المبادئ المستقرة) لا يُعد ملزماً لأي محكمة أو جهة أخرى بعد أن قررت دستورية النص، بل يُعد النصّ بعد ذلك واجب التطبيق، ويترك تأويله للقاضي المختص بالنزاع الموضوعي، لا للمحكمة الاتحادية التي انتهى دورها برد الطعن.

إن ما قامت به المحكمة الاتحادية، لم يكن سوى ركوب للموجة الشعبويَّة المتأثرة بخطاب بعض منظمات المجتمع المدني، وانجرار خلف أجندات لا علاقة لها بالدستور أو بحماية الأسرة، بل تهدف إلى إعادة تشكيل مفاهيم تحت غطاء العدالة الأسريَّة بما يخالف الشرع والدستور معاً.

وأمام هذا الخرق الفاضح لمبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، تصدّت محكمة التمييز الاتحادية للمشهد بكل شجاعة، وصحّحت المسار عبر قرارها المرقم (14/ الهيئة العامة/ 2022) الصادر بتاريخ 2022/8/31، الذي رسّخ مبدأ أن تفسير القاضي لنص القانون هو من صميم وظيفته القضائيّة، ولا سلطان عليه في ذلك حتى من المحكمة الاتحادية ذاتها، ما دامت قد ردّت الدعوى ولم تقضِ بعدم الدستورية.

لقد أعاد هذا القرار الأمور إلى نصابها، وأعاد الاعتبار لاستقلال القضاء في مجال الأحوال الشخصية، ووضع حدّاً لمحاولات تسييس النزاعات الأسريَّة تحت عباءة الدستور، وهي محاولات كان الهدف منها الضغط على القاضي، وتجريده من سلطته التقديريَّة التي تُعدّ جوهر العدالة في هذا الميدان.

 

نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية

 

لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز

لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز

كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية

كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى