
بقلم: نهاد الزركاني
في هذا الزمن المقلوب، تحوّلت بعض القضايا العادلة إلى “تطرّف”، وبعض القتلة إلى “مقاومين”، وبعض الشعوب المسحوقة إلى “مخرّبين”، كل شيء يتوقف على من يروي القصة، وكل قصة لا تُروى… تُنسى.
الذاكرة كأداة تزوير
حتى التاريخ لم يَسلم، ففي زمن الوهم، لا يُعاد إنتاج الحاضر فقط، بل يُعاد إنتاج الماضي أيضاً، تُختزل مئات السنين في شعارات، وتُقتطع لحظات من سياقها، ويُعاد رسم الذاكرة الشعبية كأنها فيلم دعائي طويل، وهكذا، يُسلب الناس حتى ماضيهم، ويُعاد تقديمه لهم على طبق من الذهب المزيف، كأنهم لم يعيشوه حقاً.
حين تُقتل الحقيقة، لا تُدفن في قبر، بل تُغيَّب في زحمة الضجيج، والوهم لا يفرض نفسه بالقوة، بل بالإقناع، وبالانفعال، وبالإشباع اللحظي، وهكذا، تتحوّل الأكاذيب إلى “مقدسات”، ويُصبح الشك في السائد جريمة فكرية، ويُتّهم صاحب الوعي بأنه مريض، ساخط، “يحب تعقيد الأمور”، لكن الحقيقة – وإن طُمست – تبقى تقاوم، في القلوب التي لم تُشترَ، وفي العقول التي لم تُبرمج.
من يروي عنا؟
في زمن بات فيه الإعلام ومنصات التواصل صانعين للواقع لا ناقلين له، تحوّلت الحقيقة إلى مادة تتشكل بحسب المزاج الرقمي، وتحوّلت الرواية إلى ساحة صراع، لا على الوقائع فحسب، بل على الهوية والذاكرة والحق في الكلام، وهنا، يفرض السؤال نفسه بإلحاح وجودي:
أين نحن من حكايتنا؟ ومن يروي عنا؟
لقد أصبحت الصورة أقوى من الحدث، والعنوان أكثر تأثيراً من المضمون، وأصبح المقطع الممنتج أكثر حضوراً من السياق الكامل، وفي هذا الضجيج، غابت الرواية التي تنبع من الإنسان العربي نفسه، من ألمه وأمله، من تجربته الحقيقية في مواجهة القهر والتهميش والاستلاب.
الروايات التي تُروى عنّا تُكتب في مراكز القرار، أو تُصاغ في قوالب إعلامية مرتهنة، أو تُنحت في وجدان الشعوب الأخرى من خلال أفلام ووثائقيات ومناهج دراسية، بينما نكتفي نحن بدور المستهلك، أو نردّ بردود فعلية لا تُنتج سردية، بل تُعيد إنتاج التبعية والانفعال.
والأخطر من ذلك، أن كثيراً من بعض النخب الفكرية والسياسية وحتى بعض الدينية، انشغلت في تكريس روايات السلطة أو الطائفة أو الأيديولوجيا، فتمزقت الحكاية، وتحول كل فصيل إلى “كاتب” لتاريخه الخاص المنعزل، حتى بدا كأننا شعوب لا يجمعها جرح مشترك ولا أمل جامع.
من يروي سقوط بغداد؟ من يروي أهوال الحصار؟ من يروي خيبات الشعوب التي تحوّلت ثوراتها إلى كوابيس؟
من يروي الحقيقة دون أن يخشى من الحساب، ودون أن يجمّل القبح أو يُبرّئ الجلادين؟
الرواية الغائبة ليست غائبة لأننا لا نملك أحداثاً… بل لأننا نفتقد الجرأة على التأويل الحر، والقدرة على التحرر من عقدة التبرير أو ثقافة الضحية.
نحن بحاجة إلى أن نروي عن أنفسنا من الداخل، من جوف المعاناة، من زوايا الصمت، من تفاصيل الخيبة والانبعاث، لا لنخاطب الآخر، بل لنُنقذ ذواتنا من السقوط في النسيان أو في سرديات لا تُشبهنا.
العود إلى الذات
لقد آن الأوان أن ننتزع زمام السرد من أفواه المتكلمين باسمنا، وأن نكفّ عن استهلاك حكايات الآخرين عنّا، مهما بدت جذابة أو منمّقة.
فالرواية ليست ترفاً ثقافياً، بل فعل تحرر، وبداية نهضة.
وحين نكتب حكايتنا بوعينا لا بانفعالنا، بعمقنا لا بثأرنا، عندها فقط نكسر قيود التبعية الثقافية، ونؤسس لذاكرة حية تتجاوز الدم والنسيان.
العود إلى الذات ليس انسحاباً من العالم، بل هو تأمل نقدي في الجرح والهوية والتاريخ، لنفهم كيف وصلنا إلى هنا، وكيف نمنع تكرار الكارثة.
لأن أمة لا تروي عن ذاتها، لا تصنع مستقبلها، بل تُروى عنها الروايات… ثم تُمحى، كما يُمحى اسم الغائب من لوحة الذاكرة.
فلنبدأ من الذات…
فهناك فقط يبدأ الوعي، وهناك فقط يولد الإنسان من جديد.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز