
الحلقة الثامنة
رعب وخوف وهروب من قدر محتوم… أم وقف للحرب بعد الفشل في تحقيق الهدف؟
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ۖ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 96)
من يتأمل المشهد الإسرائيلي وسط التصعيد بقوة الردع عبر عمليات القصف الإيراني المباركة والدقيقة، والتي حاول العدو الصهيوني التخلص منها، يدرك بوضوح صدق هذا النص القرآني، الذي لم يأت وصفاً تاريخياً منقطع الصلة، بل كشفاً دائماً لطبيعة قوم يتبنون نفس أفكار أسلافهم ويكررون نفس السلوكيات.
فالخوف مرض متجذر فيهم، والفرار من الموت سلوك يومي يعيشونه طلباً للبقاء في هذه الدنيا.
أيها الأحبة،
لم يكن حب نتنياهو ومن يشاركه السلطة وأشباههم للحياة في ذاته مشكلة، لأن المعصوم يعلمنا أن ندعوا بطول العمر، فهذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول في الدعاء: «واجعلني ممن أطلت عمره، وحسنت عمله، وأتممت عليه نعمتك، ورضيت عنه، وأحييته حياة طيبة في أدوم السرور، وأسبغ الكرامة، وأتم العيش».
بل المشكلة في دناءة هذا الحب، المرتبط بالفرار من الموت بأي ثمن، حتى لو اقتضى الأمر التخلي عن المبادئ الزائفة التي يدعونها، والاختباء خلف الجدر، وتقديم الأعوان والمرتزقة، بل وقتل الأبرياء وقوداً لمغامراتهم السياسية، كما قال تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾،
أي يتمنى عمراً طويلاً فقط لتأجيل مواجهة المصير المحتوم.
بينما يعلمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ميزاناً مهماً في طلب طول العمر، حيث يقول: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله فحسن منقلبه إذ رضي عنه ربه، وويل لمن طال عمره وساء عمله وساء منقلبه إذ سخط عليه ربه».
أيها الأحبة،
لقد رأينا – بفضل الله تعالى وعزيمة المؤمنين – تل أبيب وعموم الكيان الصهيوني يعيشون هذا الواقع؛ حيث حالة الرعب الجماعي التي يعيشها المستوطنون واضحة، والجنود يهربون من الخدمة، والمجندون يرفضون الأوامر، بل إن الإعلام العبري نفسه يتحدث عن مستوى غير مسبوق من الهلع والإرباك والتخبط.
صفارات الإنذار تارة تدوي، وتارة أخرى تشل، والمدن مشتعلة، ونرى عجز الملاجئ عن استيعاب الفارين من القصف، ولو سنحت الفرصة لهم في الفترة الماضية، لرأينا المطارات تشهد هروباً جماعياً، مع من رأيناهم قد هربوا براً وبحراً.
أيها الإخوة،
إن الرفض الداخلي في وتيرة متزايدة لسياسات نتنياهو؛ إذ لم يعد المستوطنون الصهاينة يشعرون أن قيادتهم السياسية توفر لهم الأمن، أو تحسن لهم شروط البقاء التي جاءوا من أجلها، بل أصبحوا يشعرون أنهم تم جرهم إلى هاوية لا قرار لها.
إن الجمهور الصهيوني بات أشد حرصاً على الانسحاب والنجاة الفردية في تلك الظروف من أي وقت مضى، ولو سمح للمستوطنين بالنزول إلى الشوارع، لوجدتها غارقة في المظاهرات رفضاً لحكومة فاشلة فاسدة، تغامر بدماء الجميع من أجل استمرار زعيم غارق في قضايا الفساد والملاحقة القضائية المحلية والدولية.
إن حلفاء الصهيونية العالمية يعلمون أن الداخل الإسرائيلي ممزق بين رفض حكومة نتنياهو، وخوف من نهاية الوجود، لذا تجدهم يناورون لرفع معنوياتهم من خلال قصف يدعون أنه حقق أهدافاً كبيرة عظيمة استراتيجية، متناسين أنهم حتى لو قتلوا عالماً نووياً أو قائداً عسكرياً، فإن جامعات ومعاهد إيران صممت لإعداد قادة وعلماء، وهو ما ينبغي أن يجعل كل مهتم بهذا الشأن يشعر بالسكينة؛ لأن تبادل المواقع لابد منه، جيل يذهب وجيل يرث المنجزات ليحقق المزيد، وهذه سنة طيبة.
كما أن علينا أن نسلط الضوء على اليهود في دول العالم الذين لم يدخلوا فلسطين ولم يستوطنوا هناك، كيف يقيمون الوضع؟ فإنهم يرون أن نتنياهو يقود الإسرائيليين إلى المصير الذي يهرب منه اليهود عبر التاريخ.
وفي ذات الوقت، يظن نتنياهو أنه قادر على تحدي السنن الإلهية، ويستميت في البقاء بالسلطة، غير مبال برفض الشارع، ولا بالخراب الذي يتضاعف، فهو يتجاهل العبر، ويستمر في الغرور والتكبر، ظنا أن الحصون والأسوار ستنجيه من قدر الله.
ولكن، هل يدرك هو ومن يقف إلى جانبه ومن يدعمه أن العمر الطويل لا يؤخر العذاب؟ كما قال سبحانه: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾، فكلُّ يومٍ إضافيٍّ يعيشونه تحت الرعب، ليس نعمة، بل هو تراكم للحساب، واقتراب من النهاية المحتومة.
ولكي نكون منصفين، حتى مع النكرة نتنياهو، نقول: إن ما أوصل اليهود إلى هذه الحال، ليس فقط سياسات نتنياهو، بل إن أساس الكيان قائم على التمييز العنصري والتفوق الكاذب، ومن اللطيف أن الله تعالى فضحهم في كتابه الكريم بقوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا…﴾ (البقرة: 111)، وقال تعالى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ (المائدة: 18).
هذا الغرور دفعهم إلى احتقار سائر البشر، والاستفراد بالأرض، ليقيموا كيانهم على أنقاض الشعوبِ، واعتقدوا أن لهم امتيازاً سماوياً زائفاً، بينما الحقيقة أن عنصريتهم المقيتة قادتهم إلى العزلة والكراهية من جميع شعوب العالم، وخير شاهد أن حلفاءهم الألمان أحرقوهم كما يزعمون في زمان هتلر، فكبدوا ألمانيا غرامات مالية على إثر ذلك.
وأقولها للتأريخ: إن بعض من يدعمهم لا حباً ولا كرامة، بل كي يزداد العالم بغضاً لهم وحقداً عليهم؛ كي تتسارع عجلة زوال هذا الكيان اللقيط، وقسم يتربح بهم اقتصادياً، وآخر يريد الاحتماء بهم من أعداء أو خصوم آخرين.
أجدد القول: إن شعوب العالم تكرههم وتجاهر بذلك إن تلقوا ضربة من أي طرف، نعم، هناك حكام يتجبرون على شعوبهم، فيدينون بالولاء للمستعمرين والصهاينة، وهم لا يمثلون في الغالب آراء وإرادة تلك الشعوب.
والمضحك أن اليهود لا يتمنون الموت، رغم ادعائهم امتلاك الجنة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ (البقرة: 94-95).
عجباً، ولا أعجب من هؤلاء، لكن أقول: لو كانوا صادقين في وعدهم بالآخرة لما هربوا من الموت، بل لتمنوه، كما وضح ذلك القرآن الكريم، حيث شبه الله سبحانه تعلقهم بالحياة حتى بأولئك المشركين الظاهرين، فقال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، أي أن تعلقهم بالحياة أشد حتى من عبدة الأصنام، لأن أولئك قد يقبلون على الموت في سبيل أوثانهم، أما هؤلاء فلا يقاتلون إلا من وراء جدر، ولا يتحركون إلا بأدوات الغدر والخيانة والاحتماء بالأسوار والحصون.
إن سجلهم الأسود، وجرائمهم التاريخية، تمنعهم حتى من ادعاء الجرأة في حب الموت الذي يتمناه أبناء الإسلام العظيم؛ ليغدوا على ربهم شهداء.
لقد أكد القرآن الكريم أن اليهود يتشبثون بالحياة، ولو كانت “أتفه حياة”، كما أشار الله تعالى في كتابه الحكيم بتحقير دنياهم بقوله: ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ﴾، أي على أدنى مستويات البقاء، وها أنتم ترونهم يعيشون في الملاجئ التي يتغوطون فيها على أنفسهم، كما ينقل بعضهم، كل ذلك خوفا من الحساب والقصاص.
ختاماً أقول:
هل آن الأوان لنثق بالقرآن لكشف الواقع؟
فالمؤمن يرى بنور الله تبارك وتعالى، والقرآن نور الله ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ [النساء: 174].
أيها المسلمون في العالم، ما يجري اليوم من انهيار معنوي في الشارع الصهيوني، وتصدع داخلي، وهروب جماعي، ليس مفاجئاً، بل هو التطبيق العملي لما كشفه القرآن عن طبيعة هذا الكيان وقومه.
ومع كل حدث عسكري، ومع كل انهيار للجبهة الداخلية، تتأكد الحقيقة:
لا قوة تحميهم من السنن الإلهية، ولا أسوار تعصمهم من قدر الله، حيث يقول جل وعلا:
﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: 4-7].
فهل نبصر نحن هذه الحقائق؟ وهل نعيد قراءة القرآن كمرآة للواقع، لا كمصدر للعبادة فقط، بل كمرشد لتحليل الواقع، واستشراف النصر المستقبلي المحتوم على يد صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟
والله ينبهنا في كتابه المجيد، قائلاً: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا،
اللهم اجعله حجة لنا، ولا تجعلْه حجة علينا، إنك أنت السميع البصير.
الخطيب الحسيني السيد رسول الياسري
يوم الثلاثاء المصادف ٢٠٢٥/٦/٢٤
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز