
شهدت السنوات الأخيرة طفرة كبيرة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي لم تقتصر على المجال الصناعي أو التعليمي فحسب، بل امتدت لتؤثر بشكل مباشر على أنماط التفكير والسلوك الإنساني، ورغم أن هذه التقنية تقدم حلولًا مبتكرة، وتسهل جوانب كثيرة من الحياة اليومية، إلا أنها تثير مخاوف متزايدة على الصعيد النفسي والاجتماعي والأخلاقي.
ومع الانتشار السريع للتقنيات التوليدية والمساعدات الرقمية، بدأ يظهر جدل واسع حول ما يُعرف بظاهرة “ذهان الذكاء الاصطناعي”، أي احتمال أن يؤدي الإفراط في التفاعل مع هذه الأنظمة إلى أعراض نفسية تشبه الذهان العقلي.
عدم القدرة على التفريق
خبير الذكاء الاصطناعي والحاصل على دكتوراه في علم النفس زيد ربابعة، أوضح أن الأمر لا يعني الذهان بالمعنى المرضي الحرفي، لكنه يشير إلى أن الاستخدام المفرط لهذه التقنيات قد يسبب تشويشاً في الإدراك واضطراباً في القدرة على التمييز بين ما هو واقعي وما هو مُولّد اصطناعياً.
ويضيف أن التعلق العاطفي الزائد بالمساعدات الرقمية قد يقود إلى نوع من الهوس بالمحادثة والدردشة معها، وهي حالة قد تحمل ملامح قريبة من الذهان، لكنها تبقى حالة نفسية مكتسبة، وليست مرضاً دماغياً داخلياً.
وبحسب صحيفة “واشنطن بوست”، فإن هذا المصطلح لا يُعَد تشخيصاً طبياً معتمداً، لكنه أصبح وصفاً دارجاً لحالات من الأوهام والمعتقدات الخاطئة، بما في ذلك delusions of grandeur (أوهام العظمة)، والمشاعر البارانويدية، أو الاعتقاد بامتلاك قوى خارقة، نتيجة اعتماد المستخدمين على المحادثات المطوّلة مع روبوتات الذكاء الاصطناعي.
وغالباً ما يلجأ هؤلاء الأشخاص إلى هذه الأدوات بحثاً عن دعم نفسي أو استشارات رخيصة الثمن، قبل أن تتحول التجربة إلى اضطراب عقلي خطير، ولكن الخبير ربابعة يرى أن العلامات التحذيرية لهذه الحالة تبدأ حين يقضي الشخص ساعات طويلة مع الذكاء الاصطناعي، على حساب حياته الواقعية، أو حين يتعامل معه كأنه شخص حي يمتلك وعياً.
وتتضح الخطورة أكثر عندما يبدأ الفرد بفقدان الحدود بين العالم الحقيقي والعالم الافتراضي، ويتراجع تواصله مع أسرته وأصدقائه، ويصل الأمر أحياناً إلى الاعتماد على هذه الأنظمة في اتخاذ قرارات حياتية حساسة، دون مراجعة بشرية، وهو ما يعد مؤشراً مقلقاً للغاية.
ويشير إلى أن الاعتماد على المحادثات مع الذكاء الاصطناعي قد يخلق ما يُسمى بالعلاقة الزائفة أو “شبه العلاقة”، أي ارتباط يبدو في ظاهره علاقة، لكنه يفتقر إلى جوهر العلاقات الإنسانية الحقيقية. فالمساعد الرقمي لا يمكنه أن يقدّم دفئاً اجتماعياً أو تعاطفاً بشرياً، وقد يكون متنفساً مؤقتاً لمن يشعر بالوحدة، لكنه لا يعوّض التواصل الحقيقي، ويبقى الاعتماد الكلي عليه يقود تدريجياً إلى العزلة، وربما الاكتئاب.
ويؤكد أن الأشخاص الذين يعانون مسبقاً من القلق أو الاكتئاب أو العزلة الاجتماعية، أو لديهم قابلية للإصابة بالذهان، أكثر عرضة للانزلاق في هذه الظاهرة، لا سيما وأنهم يجدون في الذكاء الاصطناعي مهرباً مؤقتاً، لكنه في الحقيقة يعمّق انفصالهم عن الواقع، ويزيد من صعوبة عودتهم إلى التوازن الطبيعي.
ويشدد على ضرورة دمج التوعية بمخاطر الذكاء الاصطناعي في برامج الصحة النفسية والمناهج التعليمية، مثلما يتم التحذير من إدمان الإنترنت أو الألعاب الإلكترونية.
ويرى ربابعة أن هذه التوعية يجب أن تكون جزءاً من التربية الرقمية في المدارس، ومن برامج الدعم النفسي في الجامعات، ومن إرشادات العاملين في البيئات التقنية.
أما عن طبيعة الظاهرة، فيعتقد أنها على المدى القصير مرتبطة بجِدّة التكنولوجيا والانبهار بها، لكنها على المدى الطويل مرشحة لأن تصبح مشكلة مستمرة، خاصة إذا تطورت التقنيات لتصبح أكثر شبهاً بالبشر في الصوت والصورة والشخصية، وهو ما قد يجعلها أشد تأثيراً، على غرار إدمان الإنترنت، الذي تحول مع الوقت إلى قضية دائمة.
وعند رصد حالة مشابهة، ينصح الخبير أولاً بالاعتراف بالمشكلة وعدم إنكارها، ثم العمل على تقليل وقت التفاعل مع الذكاء الاصطناعي عبر وضع جداول زمنية واضحة، وإعادة دمج الشخص في أنشطة اجتماعية واقعية، مع ضرورة استشارة متخصص نفسي إذا ظهرت مؤشرات قوية مثل العزلة التامة أو فقدان الاتصال بالواقع، كما يشير إلى أن العلاج السلوكي المعرفي يعد من أكثر الأساليب فعالية لإعادة ضبط العلاقة مع التكنولوجيا واستعادة التوازن النفسي.
تشير المستشارة النفسية كريمة العيداني آل بوعلي، إلى أن بعض الفئات تعد أكثر عرضة للتأثر السلبي من غيرها، وعلى رأسها المراهقون والشباب تحت 18 عاماً، خصوصاً من لديهم اضطرابات سابقة، كالقلق أو الميل إلى العزلة الاجتماعية.
وبحسب العيداني فهذه المرحلة العمرية ما تزال في طور بناء الهوية، الأمر الذي يجعل أصحابها أكثر هشاشة أمام الإغراءات الرقمية والأوهام التي قد تنسجها أنظمة الذكاء الاصطناعي.
“وتتضح خطورة الاستخدام غير المنضبط عندما يبدأ الشخص بالانفصال عن محيطه الواقعي”، على حد تعبير العيداني، فالاستخدام المفرط للتكنولوجيا قد يبقى في إطار “العادة”، طالما لم يؤثر على الدراسة، العمل أو العلاقات الاجتماعية. لكن مع أول مؤشر لإهمال الحياة الواقعية، أو الاعتقاد بوجود “شخصيات حقيقية” خلف المحادثات الرقمية، يتحول الأمر إلى حالة انفصال عن الواقع تستدعي التدخل.
كيف ننقذ الأبناء؟
بحسب العيداني، هنا يبرز دور الأسرة والمدرسة بوصفهما خط الدفاع الأول، فالأهل مطالبون بالحوار الواعي مع أبنائهم، وتحديد أوقات الاستخدام، ومتابعة أنشطتهم الرقمية، فيما تقع على عاتق المدرسة مسؤولية دمج برامج توعية رقمية داخل المناهج، وتدريب المعلمين على رصد العلامات المبكرة للانعزال، أو الانجراف وراء العوالم الافتراضية.
ومن زاوية أخرى، تطرح هذه الظاهرة تساؤلات أخلاقية حول تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي نفسها، فالمستشارة ترى ضرورة أن تحتوي هذه الأنظمة على آليات حماية، مثل التنبيه أو الإيقاف المؤقت، إذا رصدت أنماطاً مضرة بالوعي النفسي أو السلوك الاجتماعي، خاصة عند الفئات العمرية الصغيرة.
أما على صعيد المؤسسات الصحية والتعليمية، فتشدد العيداني على ضرورة إعداد كوادر متخصصة قادرة على التعامل مع هذه الظاهرة، فالأطباء النفسيون، الأخصائيون الاجتماعيون والمعلمون يحتاجون إلى تدريب لفهم تأثيرات الذكاء الاصطناعي ورصد الأعراض المبكرة، مثل اضطراب النوم، الانعزال أو الهوس بالمحادثات الافتراضية.
ولا يقتصر الخطر على الجوانب السلوكية، بل يمتد إلى البُعد البرمجي أيضاً، فأنظمة الذكاء الاصطناعي، إذا كانت مبرمجة على التحيّز الإيجابي المفرط أي تقديم الإطراء المستمر وتعزيز الثقة بشكل مبالغ فيه، قد تساهم في تعزيز الأوهام أو حتى الدخول في حالات ذهانية لدى بعض المستخدمين.
وفي هذا السياق، تحدد العيداني علامات تحذيرية ينبغي الانتباه لها، مثل الانقطاع التام عن العلاقات الواقعية، فقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية، الاعتماد النفسي الكامل على المحادثات الرقمية، أو إضفاء طابع “واقعي” على الشخصيات الافتراضية.
وتختم بالقول: “الذكاء الاصطناعي أداة عظيمة إذا استُخدم بوعي وأخلاقيات، لكنه قد يتحول إلى تهديد حقيقي للصحة النفسية والاجتماعية إذا تُرك دون رقابة أو وعي كافٍ.”
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز