مقالات
أخر الأخبار

أنظف قميص متسخ

كتب د. أسامة أبو شعير: فلنقلها بصراحة تامة، الولايات المتحدة تجلس اليوم فوق قمة جبل من الديون يبلغ 37 تريليون دولار، رقم يفوق قدرة الخيال، ولو حاولت استيعابه بالأرقام، فتخيل أنك تدخر مليون دولار يومياً ـ سيستغرقك ذلك مئة ألف عام لتصل إليه.

 

لكن الأخطر من حجم الدين نفسه هو السؤال الذي يشغل العالم: إلى متى سيبقى «العم سام» يقترض دون حساب، ومن سيدفع الثمن في النهاية؟.

في الأيام القليلة الماضية، مرّر ترامب مشروعاً مالياً أسماه بنفسه «مشروع الموازنة الجميلة الضخمة»، خفّض الضرائب بسخاء، لكنه أضاف وحده أكثر من 3 تريليونات دولار إلى ديون أميركا، حتى إيلون ماسك، الذي لا يُعرف عنه الحذر أو المجاملة، وصف المشروع بأنه «رجس مقزز».

الولايات المتحدة ببساطة تنفق أكثر بكثير مما تكسب، والفارق يغطيه الاقتراض، تصدر سندات يشتريها العالم كله تقريباً، غير أن الصورة بدأت تتغير، منذ بداية هذا العام فقط، هبط الدولار 10% مقابل الجنيه الإسترليني و15% أمام اليورو.

في الوقت نفسه، صار المستثمرون يطالبون بعوائد أعلى لإقراض أميركا، تحسباً للمخاطر، حتى منحنى العائد — الذي يقيس الفرق بين الفوائد على السندات الطويلة والقصيرة — اتسع، وهي علامة كلاسيكية على تزايد الشكوك بقدرة أميركا على سداد ديونها في المستقبل من دون أزمات.

ورغم ذلك، ما زال الدولار «أنظف قميص متسخ» بين عملات العالم، على حد تعبير الخبير الاقتصادي محمد العريان، الذي قال بوضوح: «الجميع يدرك أن الدولار مثقل بالديون، ولهذا نرى ميلاً أكبر إلى الذهب واليورو والجنيه، لكن لا مكان كبير آخر يمكنهم الذهاب إليه».

وهذا حقيقي، فاليورو يفتقر للثقل السياسي والعسكري الذي يحمله الدولار، واليوان الصيني ما زال رهيناً لانغلاق نظامه وشكوك الشفافية فيه، والذهب لا يدرّ فوائد ولا يوفر مرونة السيولة نفسها، يبقى الدولار، بكل علله، الملاذ الأخير الذي يعتمد عليه العالم.

لكن إلى متى سيظل هذا قائماً؟، راي داليو، مؤسس أكبر صندوق تحوط في العالم، رسم مشهداً مقلقاً، يرى أنه إذا واصلت أميركا على هذا المسار، فستنفق قريباً حوالي 10 تريليونات دولار سنوياً فقط لخدمة ديونها، عندها لن يكون أمامها إلا أن تقلص إنفاقها وترفع الضرائب بشدة، أو يضطر الاحتياطي الفيدرالي لطباعة مزيد من الدولارات، فيشتعل التضخم وتتسع الفجوة بين الأغنياء وبقية المواطنين، وفي أسوأ الأحوال، قد تتخلف عن سداد ديونها، فتضطرب الأسواق العالمية اضطراباً غير مسبوق.

هنا يجب أن نسأل نحن العرب والعراقيين تحديداً: هل من الحكمة أن نستمر في تكديس مدخراتنا في هذا القميص المتسخ، أم نستعد ليوم قد لا نجد فيه حتى قميصاً نرتديه؟.

معظم اقتصاداتنا، من الخليج إلى بغداد، ترتكز بشكل شبه كلي على الدولار، نبيع نفطنا بالدولار، نكدس احتياطاتنا بالدولار، وحتى ديوننا غالباً مقومة بالدولار، أي هزة كبيرة تصيب مكانة الدولار أو قفزة مفاجئة في أسعار الفائدة الأميركية سترتد مباشرة على موازناتنا، ترفع كلفة خدمة ديوننا وتضعف عملاتنا، وربما تهدد استقرارنا المالي كله.

والعراق في قلب هذا الخطر، فاقتصاده ريعي شبه كامل يعتمد على النفط المسعّر بالدولار، دون قاعدة إنتاجية متينة أو تنويع اقتصادي فعلي، أي مرض يصيب الدولار ستصيب حماه العراق بشكل مباشر وسريع.

لكن هناك نماذج جديرة بالدراسة، فمثلاً، الصين وروسيا زادتا منذ سنوات حيازتيهما من الذهب، وقللتا تدريجياً نسب الدولار في احتياطاتهما لصالح اليورو واليوان.

دول مثل النرويج وكوريا الجنوبية لديها صناديق سيادية ضخمة تستثمر في طيف واسع من العملات والأصول، فتحمي اقتصاداتها من أية أزمة تضرب عملة معينة، عربياً، الإمارات والسعودية تتقدمان بثقة على هذا المسار، عبر صناديق سيادية تستثمر في أسواق عالمية متعددة، وتبني مظلات أمان مالية ضد تقلبات الدولار.

وهناك تجارب آسيوية أخرى أكثر عمقاً، مثل ماليزيا وسنغافورة، التي لم تكتفِ بتنويع احتياطاتها النقدية بل بنت اقتصاداً متنوعاً صناعياً وتقنياً وخدمياً، فقلل من اعتمادهما على الدولار وحده، وجعل صادراتهما موزعة على أسواق مختلفة وعملات متنوعة.

حتى في الغرب نفسه، بدأت أقلام كبار الاقتصاديين مثل هاميش ماكراي تكتب علناً: «الجميع يعلم أن عجز أميركا لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، لكن لا أحد يعرف كيف ومتى سيتوقف»، إنها رسالة ضمنية بأن العالم بأسره يقامر مع الزمن.

أما العراق، فلديه فرصة ثمينة اليوم مع أسعار النفط المقبولة نسبياً، ليبدأ فعلياً في تأسيس صندوق سيادي متعدد الأصول والعملات، يوجه جزءاً من فوائضه إلى الذهب وسندات دول موثوقة وأسواق إنتاجية، فيحصن الدينار ويحمي مدخرات العراقيين من أي انهيار مفاجئ للدولار.

هذا ليس ترفاً ولا رفاهية سياسية، بل بوليصة تأمين ضرورية، حتى لا نستيقظ يوماً فنجد أنفسنا نتدافع بحثاً عن قميص أقل اتساخاً، فلا نجده أصلاً.

 

خبير اقتصادي ومستشار دولي للسياسات التعليمية والتنمية

 

لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز

لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز

كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية

كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى