
كتبت سوسن الجزراوي: على الرغم من ظهوره في السنوات الأخيرة، وبغض النظر عن مسألة تفاهة المحتوى أحياناً، إلا أن المحتوى الرقمي العراقي، شهد تحولاً غير مسبوق في بنية الخطاب الإعلامي، حيث أصبحت المنصات التي تتعاطى مع هذه التقنية الرقمية، مساحة بديلة ومؤثرة وفاعلة، تتشكل عبرها توجهات الرأي العام وطموحات وآراء ومواقف كبيرة من الأحداث، التي تحصل، وتظهر من خلالها أصوات جديدة تجاوزت حدود الإعلام التقليدي.
وهذا التحوّل لم يكن مجرد انتقال من شاشة التلفزيون إلى شاشة الهاتف، أو إلى صفحات ورقية أو مذياع صوتي، بل هو انتقال من نمط تواصل أحاديّ إلى فضاء تفاعلي مفتوح يتجاوز الحدود المهنية وقيودها ونمطية المؤسسات ورتابة إيقاعها، ليمنح الجمهور وصنّاع المحتوى شراكة في صناعة الحدث وروايته وشرعية إنسانية لا تخضع في كثير من جوانبها لسلطة القانون.
ويضم المشهد الرقمي تنوّع في الأساليب والموضوعات التي يتناولها الشباب وتقترب من ميولهم ورغباتهم وما يدور في خيالهم من قضايا ومواقف وحكايات، بدءاً من تجارب الترفيه والكوميديا اليومية، وصولاً إلى المحتوى التعليمي الذي يهم شريحة كبيرة منهم بخاصة الطلبة، كذلك التغطيات الميدانية، والبرامج الحوارية القصيرة والمنصات الثقافية التي تستعيد الهوية العراقية بروح معاصرة ممزوجة بما يجود به العقل وما يتمنى.
وما يميز التجربة العراقية أنها ظهرت من بيئة تعاني تحديات اقتصادية وسياسية وانتكاسات إنسانية أحياناً، بل ومليئة بالصراعات القاسية أحياناً، لكنها مع هذا كله، نجحت في إنتاج محتوى يصل إلى ملايين المتابعين داخل العراق وخارجه، ويعكس صورة مجتمع ديناميكي قادر على الابتكار والتفاعل والقدرة على المحاورة وإبداء الرأي والحديث بجرأة وثقة.
إن تصاعد هذا الدور يعود إلى عاملين أساسيين، الأول أن الجمهور العراقي بات أكثر انفتاحاً على المنصات الرقمية وأكثر تفاعلاً مع القضايا اليومية بطريقة (استقصائية)، ما خلق دائرة تأثير جديدة تعتمد على سرعة الانتشار وعلى قوة المشاركة (الشعبية)، والثاني أن جيل الشباب وجد في الفضاء الرقمي مساحة آمنة نسبياً للتعبير عن ذاته بعيداً عن الخطابات الرسمية ومقص الرقيب وتكميم الأفواه وتنميق الكلام، فظهرت أصوات نقدية وشخصيات مؤثرة، ومبادرات إعلامية مستقلة استطاعت أن تنافس وسائل الإعلام الكبرى من حيث الوصول والتأثير.
إلا أن هذا النمو بإيقاعه المتسارع، لا يخلو من التناقضات الغريبة والمثيرة للجدل، فكما يقدّم المحتوى الرقمي العراقي نماذج ناضجة وفنية تتسم بالوعي والجرأة، نجد في المقابل (وللأسف)، محتوى قائماً على الاستفزاز المقيت وصناعة الجدل العقيم، وتضخيم الأحداث بشكل غير مقبول أحياناً.
ويعكس هذا التباين، غياب المعايير الأخلاقية، وانهيار المنظومة الرصينة والحدود الأخلاقية وانفلات فاضح امتدت حممه البركانية إلى أغلب بقاع المجتمع، فصانع المحتوى في العراق يعمل غالباً بمفرده وبطرق بسيطة أحياناً وسطحية وبدائية، ومن دون بيئة داعمة توفر التدريب والتنظيم والحرفية، بل حتى بلا منظومة قانونية تحمي حقوقه أو تنظّم علاقته بجمهوره، أو تحاسبه بشكل قانوني حقيقي في حال تجاوزه على الأعراف والقيم الأخلاقية.
الملفت للنظر أن المحتوى الرقمي بدأ يؤثر بشكل مباشر في صياغة النقاشات العامة في العراق، فقد أصبحت فيديوهات قصيرة لشخصيات غير معروفة قادرة على تحريك الرأي العام وأخذ الكثير من وقته لمتابعة حتى بعض الإمعات أحياناً، وتسليط الضوء على قضايا مجتمعية سطحية بل والتأثير في الخطاب السياسي أحياناً، وهذا التطور يضع المؤسسات الإعلامية التقليدية أمام تحدٍّ كبير، إذ لم يعد الجمهور يبحث عن الخبر فقط، بل عن مصدر الخبر، فيحلل تارة وينظّر تارة أخرى، باستخدام لغة قريبة من تجربته اليومية وتفاصيل حياته الخاصة.
ومع كل ما تقدم، فإن الحقل الرقمي العراقي اليوم لا يزال في مرحلة بناء، لكنه يمتلك مقومات تسمح له بالتحوّل إلى صناعة مؤثرة على المستوى العربي، خاصة بوجود طاقات شبابية مثقفة متعلمة، فالعراق يمتلك قوى بشرية شابة، ولديه إرث ثقافي غني، وقصص إنسانية عميقة، وهو ما يجعله قادراً على إنتاج محتوى عالمي لو توفرت له البيئة المناسبة.
وما يحتاجه الآن ليس فقط المزيد من صناع المحتوى، بل الحاجة إلى محتوى نوعي قادر على إزاحة المحتوى المتدني غير المثمر، والتحول إلى بنية إعلامية مستقلة تستثمر في المواهب وتمنحها فرصة للنمو.
وفي النتيجة النهائية لمحور الموضوع، يمكن القول إن المحتوى الرقمي العراقي لم يعد مجرد فضاء للترفيه بل أصبح مرآة للمجتمع، وأداة للتفكير الجماعي، ومنصة تشكل من خلالها صورة العراق الجديدة.
ورغم التحديات، فإن ما يحدث اليوم يؤسس لمرحلة إعلامية مختلفة يكون فيها الشباب هم صناع الرسالة لا مستقبليها فقط، ويكون فيها الفضاء الرقمي هو المختبر الأكبر الذي تتشكل داخله ثقافة المستقبل في العراق.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز



