مقالات
أخر الأخبار

الاجترار العلمي

كتب العلاء صلاح عادل: في الوقت الذي ترفع فيه الجامعات والمؤسسات البحثية شعار تطوير جودة الإنتاج العلمي وربط البحوث بقضايا الواقع، تبرز ظاهرة خطيرة تهدد مصداقية المعرفة الأكاديمية في عالمنا العربي، وهي ما يُعرف بـ الاجترار العلمي.

 

هذه الظاهرة لا تعني فقط تكرار الأفكار، بل إعادة إنتاج المحتوى ذاته بصيغ مختلفة من دون أي قيمة مضافة، لتتحول الكثير من الدراسات إلى مجرد نسخ مكررة لأخرى سابقة.

ولعل خطورة الاجترار العلمي تكمن في أنه لا يقتصر على الانتحال أو السرقة الفكرية، بل يشمل إعادة تدوير موضوعات مستهلكة باستخدام الأدوات والمفاهيم ذاتها، مع تغييرات شكلية لا تمس جوهر البحث.

في العلوم الإنسانية تحديداً، يتسع نطاق هذه الممارسة بحكم طبيعة هذه التخصصات النظرية وصعوبة إخضاعها لقياسات دقيقة، الأمر الذي يفتح الباب أمام إعادة تدوير الأفكار وإخراجها في صورة بحوث تبدو جديدة، لكنها في الحقيقة بلا إضافة حقيقية.

لا يخفى أن ضغوط النشر ومتطلبات الترقيات الأكاديمية ساهمت في تضخم هذه الظاهرة، حيث يُكافأ الباحث على كثرة ما ينشر لا على نوعيته، فضلاً عن ضعف التأهيل المنهجي لعدد من طلبة الدراسات العليا، وهو ما يدفعهم إلى تكرار الدراسات السابقة مع بعض الرتوش السطحية.

النتيجة: رسائل جامعية متشابهة تتناول مثلاً “دور وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الوعي السياسي لدى الشباب”، مع تغيير بسيط في المجتمع المدروس أو الفترة الزمنية، لكن بالإطار النظري والنتائج نفسها تقريباً.

ولا يقتصر الأمر على موضوعات بعينها، بل يمتد إلى النظريات الكلاسيكية التي تُستخدم حتى باتت مجرد “ديكور أكاديمي”، مثل “نظرية الأجندة” أو “الاستخدامات والإشباعات”، تُكرر في معظم الدراسات الإعلامية من دون نقد أو تطوير، حتى في الحالات التي لا تخدم فيها موضوع البحث.

هذا الواقع يضعف قيمة البحوث العلمية، ويستنزف الموارد المادية والبشرية في إنتاج معرفي عقيم لا يسهم في تجديد الفكر ولا في معالجة مشكلات الواقع، الأسوأ أنه يُحبط الباحثين الجادين، ويُشوّه صورة البحث العلمي العربي في المحافل الدولية، ويؤثر سلباً في تصنيف جامعاتنا ومكانة مجلاتنا المحكمة.

لكن، ما العمل؟ الحل لا يقتصر على استخدام برامج كشف التشابه، بل يتطلب إصلاحاً أعمق في فلسفة البحث العلمي، المطلوب تغيير ثقافي ومؤسسي يبدأ من تدريب الباحثين على طرح أسئلة أصيلة، وتعليمهم التفكير النقدي والتحليل منذ المراحل الأولى، إلى جانب سياسات نشر أكثر صرامة من قبل المجلات المحكمة ترفض البحوث التي لا تضيف جديداً.

كما أن تشجيع الدراسات البينية متعددة التخصصات، يمكن أن يفتح آفاقاً للإبداع ويمنح البحث الأكاديمي العربي قدرة على المنافسة عالمياً.

إن الاجترار العلمي ليس ظاهرة عابرة، بل أزمة معرفية حقيقية تهدد مستقبل البحث العلمي العربي، وفي زمن تتسارع فيه التغيرات العالمية، لم يعد مقبولاً أن ندور في حلقة مفرغة من التكرار، بينما المطلوب أن تتحول بحوثنا إلى منصات حقيقية لإنتاج الفكر وتجديده، المعرفة لا تُبنى على اجترار الماضي، بل على الجرأة في الطرح، والعمق في التحليل، والأصالة في التناول.

 

لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز

لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز

كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية

كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى